هكذا ربّاني جدي علي الطنطاوي

 حفيدة الطنطاوي – رحمه الله – تروي تجربته التربوية ، وقامت بنشرها في حلقات في مجلة "المجتمع" الكويتية" عام 1417 هـ ، ثم جمعتها في كتاب يحمل هذا العنوان ، نشرته دار المنار عام 1418 هـ ، وأعيدت طباعته عام 1421 هـ ، ونحن ننقل ملخص تجربة الشيخ علي الطنطاوي _رحمه الله_ من هذا الكتاب .



تجربة تربوية فريدة:

تقول حفيدة الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله – عابدة المؤيد العظم عن تجربة جدها: اهتم جدي بموضوع التربية، ونبه الناس إليه في خطبه وكتبه وأحاديثه، وذلك بإنشاء دعامتين أساسيتين:

1- بناء الإيمان العميق.

2- زرع الإحساس الدائم بمراقبة الله.

وضرب لذلك مثلاً وهو عملية البناء، فهو لا يقوم إلا بأساس، ويضع من أراد أن يبني أساساً متيناً بحسب عدد الطوابق، وكلما زادت الطوابق زاد الأساس، ونحن نريد جيلاً عميق الإيمان قوي البنيان يفهم الإسلام فهماً صحيحاً مستقيماً لا اعوجاج فيه، ويتوجب على المربي استغلال المواقف لغرس هذه المبادئ مع التركيز الدائم.

ثم أتم جدي مثاله: تأتي بعد ذلك أعمال مهمة مكملة، لكنها ليست من الأساسيات، مثل: بناء الحوائط ووضع الشبابيك والتركيبات الداخلية، فهي مثل السنن المؤكدة التي ينبغي أن نشجع أبناءنا عليها بطرق متعددة لكن لا نجبرهم عليها، وأخيراً تأتي التشطيبات النهائية حيث يتم كل فرد بناء بيته حسب ذوقه، الرخام أو الدهان أو ورق الجدران...

وأكثر ما يعجبني في جدي أنه كان قدوة في كل ذلك يطبق ما يدعو إليه، فأثبت أن عمل الدعاة في التوجيه لا يتناقض مع تربية الأبناء، فكيف استطاع ذلك؟

بدأ بالتنبيه إلى وجود الله وقدرته منذ طفولة بناته، فإذا طلبت إحداهن منه شيئاً، قال لها: اطلبيه من الله فهو يسمعك ومعك أينما كنت، فإذا أتى بالمطلوب بعد أيام، قال: لأنك قلت: يا رب، رزقني الله مالاً وقدّرني على شراء ما تريدين، وربما اشترى لهن شيئاً لطيفاً ووضعه على طرف سريرها بعد أن تنام، وفي الصباح يخبرها إذا سألت بأن الله رزقها فلتحمده ولتشكره.

وإذا أقدمت إحداهن على ذنب صغير بَيَّن لها أنه عمل سيئ وطلب منها الاستغفار والتوبة لئلا يغضب الله منها ويحرمها ثوابه ولا يجيب دعاءها، وصارت إحداهن تدعو أحياناً بالمستحيل لشدة ثقتها بقدرة الله وقربه منها.

وقد كان يراقبنا عند الوضوء – مثلاً – وينبهنا إلى وجوب غسل العقب جيداً ويحذر: "ويل للأعقاب من النار".

وعندما رأي صلاتي السريعة – ولما تفرض عليَّ الصلاة – أخذني إلى غرفته ونصحني وذكرني وبيّن أن الصلاة المطمئنة الخاشعة لا تأخذ أكثر من خمس دقائق ولا شيء أهم من الصلاة أستعجل لأجله،

كما كان يمنعنا منعاً عنيفاً من نتف الحواجب أو الأخذ منها ويصوره من العظائم، وكذلك يفعل في لبس ما يصف أو يشف.

أما السنن فكان يحثنا عليها دائماً ويرغبنا ويشجعنا بالجوائز – أحياناً – لكنه لم يكن يجبرنا أو يكرهنا على شيء منها.

ملامح من شخصية المربي الناجح:

تقبل النقد:

في بعض الجلسات العائلية يطلب منا أن نعينه على نفسه فنهدي إليه عيوبه، كنا نشعر بالحرج فهو كبير العائلة، ونحن نحبه ونحترمه، لكنه كان يصرّ على سماعنا ويقنعنا بأنه لا يوجد كمال في الدنيا، والإنسان – مهما كان منصفاً – لا يستطيع معرفة نفسه تماماً، وأن يُبَصَّر المرء في الدنيا بعيوبه خير من أن يحاسب عليها في الآخرة... فنذكر له على استحياء وأدب بعض ما نعرفه فيشكرنا ويعد ببذل جهده للتقويم، وعند اتفاقنا يشهدنا جميعاً بأنه سيحاول التغلب على عيبه ويرجو منا تنبيهه إذا نسي وعاد...



هيبة المربي:

ينجح كثير من الآباء في أن يكون مهاباً قاسياً، يسير أهل بيته وفق مشيئته، لكن قليلاً منهم من ينجح في ضبطهم بالمحبة والمودة واللطف واللين، وهكذا كان جدي، فقد كان يتابع أحوالنا ويهتم بأمورنا ويسأل عن كل فرد، ويحل مشكلاتنا المادية والمعنوية على كثرتنا، ورغم هذا اللطف فقد كان حازماً في موضع الحزم.

فربما مازحنا ثم يعرّفنا أنه حان وقت الجد، وإذا أخطأنا تارة أو تقاعسنا عن ندائه رمانا بنظرة صارمة فتردنا عن الخطأ، وإن كان الخطأ كبيراً زاد إلى نظرته كلمات قاسيات معبرات بهدوء ودون صياح، فالصياح يفقد المربي هيبته، والانفعال يقلل من احترامه ويُدني منزلته، وكانت الأمور تقف – غالباً – عند هذا الحد، ولئن كان قد اضطر – نادراً – إلى ضرب بعض الأحفاد – كما سمعت – فلأن آخر الدواء الكي.

ونظريته التي علمها بناته أن الضرب للتأديب لا للانتقام، فلم يضرب أحداً؛ لأنه كسر شيئاً دون قصد ولو كان ثميناً، بينما عوقب أحد الأحفاد حين كسر زهرية رخيصة عبث بها فوقعت أرضاً، وعلة العقاب التمرد على القانون فالزهرية للزينة لا للعب.

قد يكون المربي اليوم هو الأقوى والأقدر، لكنه غداً الأضعف والأحوج إلى الرعاية والعناية والبر والحب، وما لم يفكر بهذا فهو الخاسر، والضغط يولد الانفجار.



مع الصغار:

في عالم الصغار:

كان جدي لطيفاً معنا – ونحن صغار – ودوداً، يرحب بنا إذا دخلنا غرفته تاركاً ما بيده مقبلاً علينا فيجلسنا على ركبتيه ويمازحنا ويتفاعل مع قصصنا.

وإذا وجد منا فتوراً ابتكر أسلوباً ليدخل البهجة لقلوبنا، فربما بنى لنا من وسائد الكنب بيتاً للعب، أو صنع لنا طعاماً نسرّ بتناوله، وربما خرج بنا في نزهة ممتعة، والأمثلة على ذلك كثيرة.

فيا أيها الآباء: ادخلوا عالم أولادكم وعيشوا معهم جَوَّهم وخاطبوهم بلغتهم، واعلموا أن لكم بإدخال الفرحة قلوبهم أجراً ومثوبة، ثم استغلوا هذه اللحظات من القرب في التوجيه وزرع المفاهيم والقيم والأفكار التي تريدون.



المراقبة والمتابعة:

لما كان الكبار يعجزون عن حل شجاراتنا حيث لا يعلمون الظالم من المظلوم، صار جدي يلقي علينا نظرة بين الحين والآخر من نافذته المطلة على الحديقة ليتأكد من سلوكنا، فإذا لاحظ شيئاً مريباً على أحدنا نبهه آخر النهار دون أن يلاحظ الآخرون، وإذا حدث شجار وصراخ وقف بهدوء خلف النافذة مراقباً ما يحدث، ونحن منشغلون بالمشاجرة ثم يخرج إلينا – وهو عالم بما جرى – فيحقق في الأمر دون أن يشير إلى ما رآه، ثم يوقع العقاب على من يستحقه فقط.



الصدق مع الصغار:

حدثتني والدتي أنها اشتكت – وهي صغيرة – ألماً في بطنها، فرأى الطبيب حاجتها إلى صورة إشعاعية، وهذه الصورة تحتاج إلى تناول شَربة من الملح الإنجليزي ذي الطعم البشع والرائحة الكريهة، إلا أن أمي رفضت تناوله فحاولت معها جدتي لإقناعها بأن طعمه ليس كرائحته، فلما تذوقت بعضاً منه ازداد إصرارها على عدم شربه، فحاولت الجدة لإجبارها ورغبت ورهبت لكن دون جدوى، فلما حضر جدي قام بتولي المهمة، فكان صادقاً وأخبرها ببشاعة طعمه، وأنه هو لم يستطع – مرةً – أن يشربه، وطلب منها أن تكون أشجع منه وأقوى، وتفعل ما لم يستطعه هو؛ ليتم لها الشفاء _بإذن الله_ قالت أمي: عندما صدقني والدي شربته جرعة واحدة وأنا سادة أنفي مغمضة عيني، لشعوري بأنه مقدر بمعاناتي غير مستخف بآلامي.

إن الأطفال أذكى مما نتصور، فسرعان ما يكتشفون كذبنا عليهم فيلجؤون إلى الأسلوب ذاته للتعامل معنا، والكذب سهل الاكتساب صعب العلاج.

ورغم صدق أهلنا معنا إلا أننا لجأنا في بعض المرات إلى الكذب خوفاً من العقاب، فما تساهل جدي في هذا الأمر، إلا أنه عالجه بحكمة، فإن شك في كذب أحدهم استدعاه ووعده إن صدق بألا يعاقبه، فإذا سمع منه وجهه وعلمه لئلا يخطئ مرة أخرى، وبهذا الأسلوب صرنا نصدقه ونصدق أمهاتنا مهما كان حتى صار الصدق من طباعنا حتى لو أيقنا بالعقاب.

ومن ذلك تعامله مع التكاليف الشرعية والدنيوية، فقد كان يرغبنا فيها بالأجر والثواب لكنه يبين لنا صعوبتها كالصلاة والحجاب أول ما بدأنا فيه، ومن قوله: "كل المعالي ثقيلات على النفس، ترك التلميذ الرائي والإقبال على الدرس ثقيل، وترك العالم مجلس التسلية والاشتغال بالقراءة والإقراء ثقيل، وترك النائم فراشه والنهوض إلى صلاة الفجر ثقيل، وهجر الرجل زوجه وولده ومشيه إلى الجهاد ثقيل، ولا تنكروا وصف الدين بأنه ثقيل، فالله سماه بذلك في القرآن: "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً" (المزمل:5) لذلك تجد الطالحين أكثر من الصالحين والغافلين السادرين في الغي أكثر من السالكين سبيل الرشاد".



التربية بالتشجيع:

أهمية الثناء:

من ذلك أن جدي كان يركز على النواحي الإيجابية في شخصية كل حفيد مثنياً عليه أمام الجميع، مقدماً له الهدايا البسيطة التشجيعية من وقت لآخر.

هذه الطريقة بَنَتْ بيننا وبينه المحبة مع الثقة عندما لمسنا اهتمامه الخاص بنا، مما سهل مهمته في الإرشاد لنا، وتقبلنا منه النقد كما تقبلنا المديح، وسعينا للتخلص من السلبية فوراً لنحصل على ثواب الله ثم رضا جدي وثنائه علينا علناً.



أساليب مبتكرة للتشجيع:

كانت لجدي خزانة خاصة لا يملك مفاتيحها غيره، فيها أشياء كثيرة يسميها (النفائس) من طرائف وهدايا متنوعة الأشكال والأحجام تناسب الصغار والكبار والذكور والإناث من الأحفاد، وهي تصل جدي خفية، ويقدمها في الوقت المناسب مكافأة لمن يستحقها أو يحتاج إلى التشجيع، كما كانت تتجدد باستمرار، حيث يعطي بناته الكبار مبلغاً من المال ويوصيهن بشراء المزيد عند ذهابهن إلى السوق مما يفرح الأطفال.

كم ابتكر شهادات تقدير يخطها بالخطوط العربية تكون تذكاراً أو تقديراً لإنجاز متميز من أحد الأحفاد، فمرة فازت إحدى الحفيدات الصغيرات جداً بشهادة لنجاحها في صنع الشاي دون مساعدة أحد، فخطها وجعل من شهد الواقعة من الكبار أن يوقعوا عليها شاهدين، ومرة استحق أحد الأحفاد هذه الشهادة وسماها: (شهادة الذوق الرفيع في إعداد المائدة)، ومرة حصل حفيد له صام أول مرة وعمره خمس سنوات على هذه الشهادة التي كتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم.. يوم الأحد غرة رمضان 1411.. أول يوم صامه فلان وفقه الله وجعله من الصالحين.. مكة المكرمة).



ولم يكن جدي يبالغ في منح هذه الشهادات في كل المناسبات، بل يختار ما يظنه إنجازاً متميزاً لأحد الصغار، ولهذا بقيت لهذه الشهادات قيمتها، حتى إن بعض الأحفاد لا زال يحتفظ بهذه الشهادة بعد ربع قرن من الزمان.



من العقاب إلى الثواب:

اضطررنا لظروف البناء أن نجتمع في دار جدي، وكانت أمهاتنا يعاملننا كالكبار – مما يزيد بهجتنا – فإذا حضر وقت الأكل تركتنا أمهاتنا على طاولة الطعام دون إشراف نأكل ونتحدث، وربما تركنا الطعام نلعب ونضحك، وكانت أمهاتنا يقمن بتنبيهنا باستمرار لنكف عن العبث ونسرع في تناول الطعام، ورغم اجتهادنا في طاعتهن إلا أن شعورنا بالحيوية كان يلهينا – أحياناً – عن تلك التوصيات فنستحق العقاب.

ولما جاء جدي في العطلة الصيفية ورأى ما يحدث، دخل المطبخ، وتناول ثلاثة أطباق فوضع في أولها عشر ليرات، وفي الثاني سبع ليرات، وفي الثالث خمساً، ثم قال: أنتم في مسابقة "مَنْ ينهي طعامه أولاً" وهذه الليرات جوائز المسابقة، وأنا أنتظر الفائزين الثلاثة في غرفتي، مما أشعل الحماسة في نفوسنا، لقد استطاع جدي أن ينقلنا من جو التهديد بالعقاب إلى جو التربية بالثواب، بلمسة مبدعة، كما جعل إنهاء الطعام هدفنا، وجاء رغبة ذاتية.



تقويم علاقة الوالدين بالأولاد:

التربية على بر الوالدين:

كان أولاً حريصاً على بناته، ربما سهر من أجلهن وربما منعهن من الدراسة بسبب قلة النوم فجعل البرمجة له، ثم كان يتحين الفرص لتركيزنا بأهمية البر، وأيضاً يؤنب من يسترخي وأمه تعمل، ولم يذكر أمه إلا وفاضت عيناه مما يجعلنا نخشى أن نفقد أمهاتنا ثم نتحسر بعد ذلك على عدم البر بهن.



العقاب الرادع:

لما حيل بين جدي وبين بلده دمشق استأجر – ذات صيف – منزلاً كبيراً في أحد مصايف الأردن الهادئة ليجمع شمل العائلة المفترق، لكن البيت كان بلا كهرباء، فلا تعمل الأجهزة فيه كغسالة الملابس مثلاً، وكنا نحن الصغار نلعب حول البيت في الحدائق والبساتين الواسعة، وفي المساء نعود وقد اتسخت ملابسنا، فنغتسل ثم ننام تاركين أمهاتنا لغسيل الملابس، وفي الصباح نجد الملابس نظيفة فنخرج بها بعد وصايا الأمهات للحفاظ على الملابس، لكننا ننسى التوصيات عندما نندمج في اللعب، وفي كل مرة يتكرر الموقف، وربما الضرب والمنع من اللعب، لكن ذلك لم يفد شيئاً، فكيف عالج جدي المشكلة؟

استخدم أسلوباً رادعاً قاسياً حازماً لكنه كان مفيداً فيما بعد، فلما عُدنا ذات ليلة منهكين من اللعب نحلم بالفراش، ألزم كل واحد بغسيل ملابسه قبل النوم كما كانت أمه تفعل، اعتذرنا وحاولنا لكن دون جدوى.

تعبنا تلك الليلة وتجرحت أيدينا الناعمة، وأنهكنا النعاس حتى أشفقت علينا أمهاتنا، ورجونه بالعفو عنا، لكنه كان مصمماً على المضي في العقوبة، لكن ذلك كان علاجاً ناجعاً طوال الصيف، فلم نعد بعدها لأنانيتنا وأثرتنا.



أساليب مختلفة للإقناع:

في نفس الدار كانت البهجة والسعادة، ولم نكن نشكو إلا من كثرة الأعمال المرهقة في المنزل، فلما كثرت شكوانا كلف جدي واحداً يطوف المنزل منادياً لاجتماع خاص بالأحفاد مما أثار الفضول في نفوسنا، فاندفعنا نحوه مسرورين، وقد تهيأنا لتقبل ما سيقال لنا، فأخبرنا أنه جمعنا بناء على شكوانا سالفة الذكر، وقال: إنكم أولاً تقضون النهار كله في اللعب، فهل يعقل أن ترهقكم الأعمال التي لا تتجاوز ساعة أو ساعتين، وثانياً: العمل رياضة مفيدة من وجهين: تحرك عضلات الجسم وتخفف العبء عن أمهاتنا فننال رضاهن ويرضى الله عنا، وثالثاً: إذا ساهمنا في الإفساد فلا بد أن نساهم في الإصلاح، ولو تقاعس الكل عن العمل فمن سيعمل؟ رابعاً: أمهاتنا مثلنا يستثقلن العمل لكنه واجب يجب القيام به. وأخيراً: العمل جزء من الحياة لا بد أن نتقبله، وقد تقبلنا أكثر منه أيام المدرسة، فخرجنا من الغرفة بنفس غير التي دخلنا بها.



العدل والحسم صفتان ضروريتان في المربي الناجح:

العدل في المعاملة:

بعد قناعتنا بأهمية العمل بقيت عندنا مشكلة: عدم شعورنا بعدم العدل، حملنا الشكوى إلى جدنا قاضي الصيف، وكل منا يناقشه لإقناعه بأنه يحمل العبء الأكبر حتى إذا انتهينا كلنا أعلن أنه سيحل المشكلة، ثم أمسك ورقة فكتب عليها الأعمال المنزلية المطلوبة يومياً، ثم عرضها علينا لينتقي كل واحد العمل الذي يفضله مراعياً أعمارنا وقدراتنا رغم تقاربنا مسنداً للأكبر أعمالاً أكثر أو أصعب، وبعد التوزيع بالتساوي سطر جدولاً منظماً كتب فيه أسماءنا بخط جميل وأمامها الأعمال التي اخترناها، ثم أطلعنا على الجدول ليتأكد من موافقتنا عليه، ووقع كل منا أمام اسمه، وعندئذ علق الجدول على الحائط في الصالة التي نمر عندها طوال اليوم، فكنا بعد ذلك نقوم بأعمالنا بسرعة وإتقان وعن طيب نفس، ثم نقضي نهارنا كما يحلو لنا.

لقد أراحنا جدي بإحساسنا بالعدل والمساواة، وكان طبعاً فيه، ولم أحس أنه فضل أحداً على غيره أبداً، ولقد علمت عندما كبرت أن بعض الأحفاد أحظى لديه من بعض فكان مفاجأة له، وبعض الصغار يملك من الصفات أو غيرها ما يجعله محبوباً مقبولاً بين الكبار، وهذا قَسْمُه فيما لا يملك.

فيا أيها الآباء: إن من حقكم أن تحبوا بعض أطفالكم أكثر من بعض، لكن من حقهم أن تبقى مشاعركم حبيسة قلوبكم فلا يحسوا بأي مفاضلة.



العدل في العطاء:

ومن الأمثلة على ذلك أنني عندما كنت في الثانية عشرة من عمري أردت ساعة جديدة، بيد أن والدي رفض ذلك بحجة أنني صغيرة، لكن جَدّي عندما جاء في الصيف وعلم برغبتي تلك، صحح على إهدائي ساعة، وطلب من والدتي أن تأخذني وأختَيَّ فوراً إلى السوق وتشتري لكل واحدة منا ساعة بالمواصفات التي تريد، مع أن أختَيَّ لم تطلبا شيئاً ولم تعترضا على شراء ساعة لي وحدي، بل إن الصغرى كان عمرها ثمان سنوات ولم تتعلم بَعْدُ كيف تقرأ الوقت.

لقد أفادتني هذه الوصفة في تعاملي مع أبنائي، فكنت كلما ناولت ابني الكبير شيئاً وقف الصغير ذو العامين بكل أدب منتظر حصته دون اعتراض أو مزاحمة، بل كلما لعبت مع الأول انتظر الآخر دوره مهما تأخر...



علاج حاسم وصريح:

عاد أهلنا من إحدى السفرات لبيروت وكان معهم علب تحتوي قطعاً صغيرة من الحلوى اللذيذة التي يحبها الأطفال، وقد وافق زيارة بعض أقاربنا ومعهم صغارهم، فوزع أهلنا هذه العلب علينا وعلى صغار الأقارب فصار لكل واحد علبة.

أما نحن فقد حمل كل حفيد علبته ودار بها على أقاربنا الكبار الزائرين لتذوقها، فَسُرَّ أولادهم بذلك واحتفظوا بعلبهم مغلقة إلى حين اختلائهم بها، وأخذوا قطعاً من علبنا، ولما لاحظ جدي استغلالهم لكرمنا جمع الحلوى من أيديهم وجيوبهم وأعادها إلينا، وقال لآبائهم: إنه فعل ذلك ليعلم أولادهم أن ما فعلوه بخل واضح وطمع وأثرة لا يرضاها الله، ثم نبه الآباء إلى التربية وتقويم السلوك، وبيّن أن تصرف الأطفال هكذا مألوف لأنهم صغار، لكن الواجب على الآباء التوجيه لئلا يتحول السلوك العفويّ طبعاً يصعب الخلاص منه مستقبلاً.

وقد تنتقدون جدي لهذا التصرف، وأنا – رغم سروري بعودة الحلوى إليّ – إلا أنني وجدته غير لائق، لكن أقاربنا لا يجدوا فيه غضاضة، فجدي مربٍ للجميع، وقد نبههم إلى لمسة تربوية مهمة لم تخطر على بالهم.

لقد تعلمت أن الأسلوب المباشر مفيد في بعض الأحيان، فبعض الناس لا يدركون أنهم المعنيون إذا استخدمنا أسلوباً مبطناً، وأيقنت أن الخطأ الجلي الذي أمام الجميع يحتاج إلى تصحيح أمام الجميع.



تكوين الشخصية القوية والناجحة:

تنمية الشخصية:

كان جدي يكلفنا بالعمل الذي ينمي شخصياتنا ويصقلها حين يكلفنا بأشياء فوق مستوانا وفوق ما هو متوقع من قدراتنا، كما كان يضفي على تكليفه جواً من المرح يستحيل الصعب معه سهلاً ويصبح ممتعاً.

كنت صغيرة عندما طلب مني أن أصنع له قهوة، ولما قلت له: إني لا أعرف هوّن الأمر ثم أخبرني بخطوات صنع القهوة وفي الخامس منهن قال: خامساً: دعيها تغلي وتغلي وتغلي... حتى تغلي ستا وسبعين فَوْرة، وكدت – أثناء صنع القهوة – أعد الفورات لولا أن نبهتني أمي إلى أنه يمازحني.

وكان يدفع أحفاده الصغار للإمامة في الصلاة وهم حديثوا عهد بالبلوغ، وربما عهد إلى بعضهم بشراء بعض ما يلزم البيت وهم صغار، كشراء أشياء طريفة تفرح الصغار، ويترك لهم الخيار في الانتقاء، ثم يشكرهم ويشجعهم حتى لو أخطؤوا، وقد كانت المبالغ التي يدفعها لهم أكبر بكثير مما اعتاد أمثالهم حمله مما يشعرهم أنهم قد كبروا في يوم واحد سنوات عديدة.



الجرأة في الحق:

عندما انتقلت إلى المرحلة الإعدادية كانت ساعات الدوام تبدأ بعد أذان الظهر بقليل، وتنتهي قبيل المغرب بدقائق، ولم يكن في شعبتي طالبة واحدة تصلي في المدرسة، بل ربما سَخِرْن مني لاهتمامي بالصلاة، ونصحنني أن أجمعها مع صلاة المغرب، ثم منعت رسمياً من الصلاة داخل غرفة الدرس، فشكوت لوالدتي ما لقيت، وسألتها عن جواز جمع الظهر والعصر كل يوم، فأفتتني بعدم الجواز، ثم شجعتني على الصلاة في المدرسة بإصرار، مستهدية بإرشادات جدي – الذي كان مسافراً – حيث علمهن ألا يخفن في الله لومة لائم، فعلّي أنا أيضاً ألا أخجل ما دمت أعمل لرضا الله، وقصَّت عليّ بعض مواقف جدي التي تعرض لها وخرج منتصراً، وأن من ابتغى رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، وأشارت علي بحمل بساط صغير للصلاة عليه أمام الجميع في الاستراحة، وبعد مدة قصيرة تحولت نظرات الاستهزاء إلى نظرات احترام، مما أشعرني بالقوة والفخر والسعادة، وشجع ذلك طالبات صالحات في المدرسة على الصلاة في المدرسة، فصرنا نتناوب على الصلاة لعدم اتساع البساط.

إن الجرأة في الحق تدفع الظلم وتحفظ الحق.



العناية بالصحة والقوة:

لعدة مرات في طريق الخروج من المدرسة تحرض ابنة الجيران أخاها الصغير بإيذاء التلميذة الصغيرة بالحجارة، ويتبعها بالسباب والشتائم، حاولت التلميذة الصغيرة التسامح وحذرت البنت وأخاها من عواقب تصرفاتهم هذه عدة مرات، فزادت وقاحة البنت وتطاولت بالكلام؛ لأنها حسبت التسامح جبناً، فقررت التلميذة الصغيرة أن تدافع عن نفسها فوقفت بكل كبرياء وجمعت قبضتها كما علمها أبوها، وضربت المعتدية لكمة قوية في بطنها انثنت على إثرها متألمة ألماً شديداً، فعادت التلميذة إلى البيت منتصرة، ومن بعدها لم تتعرض لها البنت ولا أخوها بسوء.

كانت التلميذة الصغيرة هي والدتي، أما أبوها الذي علمها الدفاع عن نفسها، وامتدحها ذلك اليوم فهو جدي علي الطنطاوي، وكانت هذه إحدى لمساته التربوية في التسامح مع الضعيف، واستعمال القوة حين لا ينفع إلا القوة.

لقد علم جدي بناته كيفية الدفاع عن أنفسهن والطريقة الصحيحة في قبضة اليد ومكان ارتكاز الضربة...

وكان يمارس الرياضة دائماً، وقد اقتنى بعض أدوات التدريب الشائعة تلك الأيام، وكان يمشي مشية رياضية مشدود الظهر منتصب القامة ويعلمنا ذلك حتى لا تتأذى فقراتنا الظهرية..

كما كان يعتني بالغذاء الجيد ويوصينا بذلك، وبالمواد الأساسية اليومية في الغذاء، وكذلك النوم الجيد – عنده – من أهم أسباب المحافظة على الصحة.



تنمية المهارات:

كان جدي يستغل جلساتنا العائلية العادية فيحولها إلى جلسات علمية هادفة، وربما استشهد فيها بالشعر أحياناً، فيلتفت فجأة نحو أحد الأحفاد فيطلب منه إعادة البيت مرة أخرى لاختبار انتباهه وسرعة حفظه، كنا نجد في ذلك صعوبة فقد ننسى بعض الكلمات أو نرتبك، إلا أننا صرنا بعد ذلك ننتبه جيداً، وعودنا أنفسنا على حفظ الأشعار فور سماعها.

ومرة فكرنا بكتابة الشعر، فكتبناه في وصف الطبيعة ونحوها – بلا وزن ولا قافية! – ثم عرضناها على جدي بكل فخر، فلم يسخر منا بل شجعنا وخاطبنا على قدر عقولنا شارحاً بفكرة مبسطة العروض والوزن والقافية.

وعدما لاحظ نبوغاً مبكراً لدى أحد أحفاده وميلاً أدبياً أرشده إلى الكتب القيمة المفيدة وشجعه على الكتابة، وصار يصحح له ما يكتب...

ولما لمس مني اهتماماً بالتجويد صار يناديني من حين لآخر إلى غرفته ليصحح قراءتي، مما شجع بعض الأحفاد للانضمام إلينا، وعندما لاحظ عدم إعطاء بعض المدود حقها من بعضنا بسبب انقطاع النفس، صار يدربنا على الاحتفاظ بالنفس الطويل ويجري مسابقات في ذلك، ويشجع الذي يتحسن أداؤه عن اليوم السابق...

بل كان يشجع أي عمل إيجابي – مهما كان بسيطاً – فيحاور صاحبه موضحاً له قيمة عمله وحاثاً إياه على تقديم الأفضل، مغدقاً عليه من الثناء والتقدير.



الفرصة ذبابة:

استطاعت ذبابة التسلل – ذات يوم – إلى غرفة جدي، فطلب مني المسارعة بقتلها، فقمت بتثاقل، باحثة عن مضرب الذباب بتكاسل، ومشيت ببطء، ولما وصلت مكانها وجدتها قد طارت فبحثت عنها، إلا أنها اختفت بين كتب جدي وأوراقه، فغضب مني جدي لتباطئي في التنفيذ، خصوصاً وأنني أضعت وقتاً طويلاً ريثما عثرت عليها وقتلتها، يومها قال جدي: احفظي هذا الدرس جيداً يا ابنتي، وإياك أن تنسيه: "الفرصة ذبابة" إن فرص الحياة كفرصة قتل الذبابة تماماً، فإن تباطأت خسرت كثيراً، وستطير الفرص كما طارت الذبابة، وستحتاجين وقتاً طويلاً وجهداً للبحث عنها، وربما لا تعود.



تكوين فضائل الصفات والعادات:

الآداب الإسلامية الاجتماعية:

كان جدي يرسخ الآداب الإسلامية التي تعلمناها من أمهاتنا ويؤكد عليها، كاحترام الكبير والجلوس أمامه بطريقة مهذبة، وعدم رفع الصوت على صوته، وعدم الاشتراك في حديث لا يخصنا، وإذا أردنا المساهمة بالحديث انتظرنا الفرصة المناسبة ولم نقاطع المتكلم، وكان لا يسمح إلا لشخص واحد أن يتكلم وعلى الباقين الإنصات، وإلا تعرضوا لتنبيه، وكأننا في مدرسة نظامية.

وعندما تمتلئ الغرفة يطلب منا التفسح في المجالس، ونجلس الكبار أماكننا، وعندما نجتمع نحن الأحفاد الصغار وحدنا عنده كان يطبق عليها القوانين ذاتها فيخص أكبرنا بالمقعد المريح ثم الذي يليه... وهكذا، رغم قلة فروق السن بيننا، ويطلب من الكبير أن يفتتح الحديث ويتيح للجميع فرصة المشاركة لكن بنظام وبمراعاة الأعمار، ثم يطمئننا بأننا إذا قمنا على راحة الكبار سيأتي من يقوم على راحتنا إذا كبرنا.





الإيثار في الطعام:

مما علمنا ألا نتسابق إلى المائدة إذا جاء موعد الطعام، بل ننتظر حتى يجلس الكبار، ثم نتقدم نحن الصغار طامعين في ثواب الإيثار، ندعو بعضنا إلى المكان الجيد أو نتأخر عن الباقين في البدء بالطعام حتى لا تزدحم المائدة.

كما كان يوجهنا إلى الانتباه إلى عدد الحاضرين وإلى كمية الطعام لنقسم الكمية على عدد ا لحاضرين فنعرف حصتنا ونتيح الفرصة لغيرنا، ولذلك كنا نُبْقي آخر قطعة من أي صنف، وصرنا نسمي القطعة ا لأخيرة من الحلوى – من باب الفكاهة – القطعة المقدسة.

ومن الابتكارات التربوية لدى جدّي أنه ذات يوم جاء بلوح كبير من الشوكولاتة وقطعه قطعاً غير متساوية بل متفاوتة كثيراً في الحجم، ثم رتبها على صحن كبير، وأخذ يدور علينا يدعو كل واحد لأخذ قطعة – ليختبرنا ونحن لا ندري – وقد حدثتني إحدى الحفيدات أنها أخذت – ذلك اليوم – كبرى القطع، تقول: فنظر إليّ جدي طويلاً، وقال: لقد أخذت أكبر قطعة يا ابنتي، فشعرت بالحياء الشديد ولم أدر ما أفعل، ثم علقتْ: لقد مر على هذه الحادثة عشرون عاماً، لكني لم أنس أبداً هذا الدرس، ومن يومها صرت أختار من العصير أقله تعبئة ومن الطعام أقله كمية، وأتأخر في الطعام حتى يستوفي الحضور حاجتهم منه ثم أتقدم طمعاً في الثواب.



احترام الموعد:

احترام الموعد صفة لم يخلفها جدي أبداً، وكان إذا أراد الخروج يعد عدته ويجهز الأوراق اللازمة، ويلبس ثيابه ويجلس على كرسي عند الباب ممسكاً ساعة يدوية صغيرة مراقباً عقاربها، كارهاً دقائق الانتظار الأخيرة، وكنت إذا جلست عنده أتحدث ينشغل عني بانتظار السيارة التي سوف تقله إلى مبنى التلفزيون لتسجيل برنامجه.

وكان يتجهز قبل مواعيده بعشر دقائق، ويجلس في غرفة الاستقبال منتظراً من واعده من الزائرين، ويعد من يتأخر عن موعده مرتكباً ذنباً يستحق العقاب عليه، وقد انتظر – مرة – رجلاً واعده في زمن محدد، وانزعج كثيراً من تأخره، وبدا على وجهه حتى مرت ثلث ساعة كاملة، وحينها حضر الرجل، ففتح له الباب كاظماً غيظه، وأدخله غرفة الضيوف، ثم تركه وحده وجلس مع جدتي وبناته ثلث ساعة كاملة، بالقدر نفسه، تاركاً الرجل دون استضافة ليقدم له درساً عملياً بالأذى الذي يسببه تأخره على الآخرين، ثم استقبله وأكرمه،

أما نحن المقربون فقد كنا نحذر تقديم وعد لا نضمن تنفيذه أو الوفاء به.





تقدير النعم والمحافظة عليها:

الاعتناء بالأشياء:

عاش جدي حياة حافلة بالتغيرات، فكان العالم الذي فتح عليه عينيه ودرج فيه أيام طفولته غير العالم الذي تعيش فيه اليوم، فهو قد عايش التطور التقني من أوله، وبدأ حياته صعبة شاقة ثم دخلها التطور فصارت مريحة مما جعل للأشياء عنده قيمتها.

وخوفاً من أن يصيبنا البطر؛ لأننا لم نعانِِِِ كما عانى فقد أشعرنا بقيمة الأشياء في حياتنا، لما توفره من سرعة في الأداء وراحة من العناء، فواجبنا بالتالي المحافظة عليها.

بل كان يحرص حتى على الأشياء الصغيرة التي لا تخطر بالبال، لئلا يصبح سلوك عدم الاهتمام عادة يصعب التخلص منها، وقد كان ينهانا – مثلاً – أن نتناول شيئاً من التحف فنعبث به أو نقلبه بين أيدينا ونحن نتحدث، بل كان ينهانا عن شد شريط الهاتف اللولبي.

ولم يكن في قاموسنا أن الأشياء ترمى، بل كل شيء مرتب، والفاسد يصلحه، وما أنهكته الأيام فيعطى لعائلة تحتاجه.

المحافظة على النعمة:

فمن ذلك عدم ترك الأنوار مضاءة في الغرف الفارغة، وإحكام إغلاق صنابير المياه، وتناول المناديل من علبتها بحسب الحاجة، وأهم من هذا كله عدم رمي الطعام حتى كسرة الخبز فكان يخوفنا بعقاب الله إن رميناها، وأننا قد نحرم منها في الدنيا قبل الآخرة، بل يحرص حتى على عدم إبقاء شيء من الطعام في الصحون، ومما تعلمنا أن نأكل البائت ولا نجد في ذلك حرجاً.



في عالم الكتب وفي رحاب المعرفة:

الأحاديث المفيدة:

حين كن يحول جلساتنا العائلية إلى فائدة فإنها كانت أيضاً ممتعة ومسلية، حتى أننا – ونحن صغار – كنا نترك اللهو لننضم إلى هذه الجلسات، وقد كان يلتقط كلمة من الحديث الدائر بيننا ليحوّل بها مسار البحث وينتقل إلى الموضوع المفيد.

قال أحدهم بالفصيح: هل تغلق الباب من فضلك؟ فجعل جدي من كملة (تغلق) مدخلاً إلى حديث طويل ممتع سائلاً عن الدولة التي نسبت إلى (تغلق) ومتى وأين قامت فدخلنا في التاريخ والأعلام حتى وصلنا إلى الدين وما حققته هذه الدولة بسبب تمسكها بالإسلام...

وكان في نهاية هذه الجلسات يرشدنا إلى الكتب التي تفصِّل ما طرح من معلومات، وربما حدثنا عنها وعن مؤلفها مشجعاً على الرجوع إليها.





المراجعة في الكتب:

كان جدي يهتم بالإجابة على أسئلتنا المختلفة، مسمياً لنا الكتب التي استفاد منها مثنياً على علم مؤلفيها مؤكداً المراجعة فيها، حتى حفظنا أسماء بعض الكتب وأسماء مؤلفيها، بل وموضوعاتها الرئيسية من فقه وحديث وتفسير ، ونظام الكتب في التبويب...، وكان يدعونا أحياناً إلى مراجعة أسئلتنا الفقهية والدينية – رغم صغرنا – فيسأل: ما موضوع السؤال (تفسير، تاريخ، فقه)؟ وفي أي كتاب نتوقع الإجابة؟.. ثم يحيلنا على مكتبته الواسعة ونبحث بإرشاد جدي حتى نصل إلى المسألة فنقرأ ويشرح..



قيمة الكتاب:

ما رأيت جدي يحب شيئاً حبه للكتب، ولما اضطرته الظروف مفارقة بلده وترك بيته لم يسأل عن شيء من متاع أو مال غير كتبه، كتب متحسراً: (دنيا طالب العلم مكتبته، ومكتبتي في الشام مودعة في خمسة وثمانين صندوقاً لم تفتح من إحدى عشرة سنة، ولست أدري أأكلتها الأرضة أم هي سالمة لا تزال؟ وأنا هنا محروم منها لا أستطيع الوصول إليها) ولعلها الآن قاربت الثلاثين عاماً.

لقد قال: إنه يقرأ في كل يوم ساعات، فإذا أقلّ القراءة يوماً قرأ مئة صفحة، وإني إذا حاولت استرجاع صورته تخيلته جالساً في زاوية مخصصة واضعاً نظارته ممسكاً بواحد من كتبه وقد حفت به أكوام من الكتب والمجلات والجرائد والأوراق مجمّعة على غير نظام تنتظر دورها للقراءة أو الفرز والتوزيع، هذه هي العدوى الأولى التي نشرها بين أهل بيته (حب الكتب).

والعدوى الثانية: احترام الكتاب والعناية به، حيث كان التعامل مع الكتاب علماً لا بد من إتقانه؛ لأنها نسخة واحدة قد يرثها الأبناء، أما تناول الكتاب من الرف فطريقته أننا نضع السبابة على الطرف العلوي من حرفه الخلفي ونميله برفق..., وتقليب الصفحات له فن آخر، كما كان يحظر علينا وضع قلم رصاص داخل الكتاب، أو نضع الكتاب مطوياً على الأرض... كما كان لا يسمح بخروج الكتاب خارج بيته إلا بظروف استثنائية وتحديد مدة، ثم يسأل المستعير عن كل ما قابله أو هاتفه، وربما ندم على استعارته.



فن القراءة:

يقول: (كنت طوال عمري عائشاً وحدي، أنيس كتابي، فكنت أمضي يومي – إلا ساعات المدرسة – في الدار لا أجد ما أشغل به نفسي وأملأ به فراغ حياتي إلا القراءة) ولقد تعلمت منه أن أقرأ كل يوم عدداً من الصفحات لا يقل عن عشرين – مهما كانت الظروف والمشاغل – فإني إن تعللت وتثاقلت عن المطالعة بسبب الظروف ما كنت لأقرأ أبداً؛ لأن الملاهي والصوارف لا تنتهي.

والطريقة الصحيحة التي علمنيها للقراءة:

1- أقرأ العنوان جيداً.

2- أنتبه لاسم المؤلف، فلا يصح أن أقرأ لأي كاتب، وقد سمى لنا بعض الكتّاب لا نقرأ لهم قبل أن يشتد عودنا كجورجي زيدان مثلاً.

3- أقرأ المقدمة بعمق، فهي تبين هدف الكتاب، ومحتوى الكتاب، والطريقة التي عرض بها المؤلف الأفكار...

4- أستعرض فهرس الكتاب فأستوعب محتواه وأحيط بمادته بنظرة سريعة شاملة.

5- أقرأ الخاتمة – إن وجدت – بعمق؛ لأنها الزبدة والمغزى.

وبهذا نأخذ فكرة عن مضمون الكتاب في زمن وجيز فإن أحببناه قرأناه أو تحولنا إلى سواه.



مهلاً قبل مغادرة القراءة:

نصيحتي لكم ألا تملوا من التربية بل ثابروا، وكرروا المحاولات، وليس شيء ينفع في التربية كالتكرار والمداومة على التوجيه.

إحدى الحفيدات مقصرة في دراستها رغم تميزها في مواهبها وقدراتها فكان جدي إذا رأى منها هذا العيب يقول:

ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام

لقد ردد على مسمعها هذا البيت مئات المرات شهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام دون يأس، حتى استقام هذا الطبع فيها أو كاد.

وأرى مبتلاة بسرعة الكلام، فنبهها إلى ذلك العيب وأرشدها إلى إخراج كل حرف من مخرجه الصحيح مع إبطاء تدفق الكلمات، واتفق معها على أن تنطق كلمة واحدة كلما ضم أصبعيه وتصمت برهة ريثما يباعد بينهما، واستمرا هكذا سنوات عدة كلما اجتمع بها في الشام صيفاً ثابر على العلاج، حتى حسن كلامها.



وبعد:

فقد أهملت من تربية جدي الأمور العامة التي يشترك فيها معظم الوالدين، والتوجيهات التي يقدمها – عادة – الآباء للأبناء، وصرفت جهدي في تلمس تلك الملاحظات الصغيرة واللقطات العابرة التي بقيت عالقة في نفسي لإبداع جدي في عرضها.

إنها مواقف بسيطة تقع كل يوم في كل بيت مما يجعلنا لا نلقي لها بالاً ولا نعدها ذات شأن، لكن جدي نجح في اصطيادها فوضع منها منهجاً تربوياً متميزاً.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.





مقالات ذات صلة

كتاب (نور وهداية) للشيخ علي الطنطاوي

أدب الرحلات عند الشيخ علي الطنطاوي

الشيخ علي الطنطاوي كما عرفته

الصحراء.. من رحلة الطنطاوي إلى الحج

سيرة الشيخ علي الطنطاوي

الشيخ الطنطاوي في عرفات

علي الطنطاوي.. أثره في إرساء قواعد "الوسطية الأدبية"

سخريات (الترام) عند الشيخ علي الطنطاوي

دعوة الطنطاوي لمزج التراث بالمعاصرة

علي الطنطاوي مربِّيًا (1)

علي الطنطاوي مربِيًا (2)

مع كتب الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله تعالى

الشيخ الأعجوبة علي الطنطاوي



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/social/0/5041/#ixzz3oniX5F8o









مواضيع متعلقة


اهم الفاعليات لهذا الشهر


الشبكات الإجتماعية

تغريدات تويتر