*ما الذي جناه عمرو من الذنوب حتى استحق أن يضربه زيد كل يوم قال المنفلوطي رحمه الله

 *ما الذي جناه عمرو من الذنوب حتى استحق أن يضربه زيد كل يوم قال المنفلوطي رحمه الله :



أراد داود باشا – أحد وزراء تركيا في العهد القديم – أن يتعلم اللغة العربية ، فأحضر أحد علمائه , وأخذ يتلقى عنه علومه عهدًا طويلًا فكانت نتيجة عمله ما ستراه .



سأل داودُ شيخـَه يومًا : 

- ما الذي جناه عمرو من الذنوب حتى استحق أن يضربه زيد كل يوم ويبرح به هذا التبريح المؤلم ؟.

- وهل بلغ عمرو من الذل والعجز منزلة من يضعف عن الانتقام لنفسه , وضرب ضاربه ضربةً تقضي عليه القضاء الأخير ؟.



سأل الشيخَ هذا السؤال وهو يحترق غيظـًا وحنقـًا , ويضرب الأرض بقدميه .



فأجابه الشيخ : ليس هناك ضارب ولا مضروب يا مولاي , وإنما هي أمثلة يأتي بها النحاة لتقريب القواعد من أذهان المتعلمين . 



فلم يعجبه هذا الجواب , وأكبر أن يعجز مثل هذا الشيخ عن معرفة الحقيقة في هذه القضية ، فغضب عليه وأمر بسجنه , ثم أرسل إلى نحوي آخر فسأله كما سأل الأول ، فأجابه بمثل جوابه , فسجنه كذلك , ثم ما زال يأتي بهم واحدًا بعد واحد ، حتى امتلأت السجون وأقفرت المدارس .



وأصبحت هذه القضية المشؤومة الشغلَ الشاغل عن جميع قضايا الدولة ومصالحها .



ثم بدا له أن يستوفد علماء بغداد , فأمر بإحضارهم , فحضروا وقد علموا قبل الوصول إليه ماذا يراد بهم , وكان رئيس هؤلاء العلماء بمكانة من الفضل والحدق والبصر بموارد الأمور ومصادرها , فلما اجتمعوا في حضرة الوزير أعاد عليهم ذلك السؤال عينه .



فأجابه رئيس العلماء : إن الجناية التي جناها عمرو يا مولاي يستحق أن ينال لأجلها من العقوبة أكثر مما نال , فانبسطت نفسه قليلًا وبرقت أسارير وجهه , وأقبل على مُحدّثه يسأله : ما جنايته ؟. 



فقال له : إنه هجم على اسم مولانا الوزير واغتصب منه الواو , فسلط النحويون عليه زيدًا يضربه كل يوم جزاء وقاحته وفضوله – يشير إلى زيادة "واو" عمرو وإسقاط الواو الثانية من داود – .



فأعجب الوزير بهذا الجواب كل الإعجاب , وقال لرئيس العلماء : أنت أعلم من أقلته الغبراء ، وأظلته الخضراء , فاقترح عليّ ما شئت فلم يقترح عليه سوى إطلاق سبيل العلماء المسجونين , فأمر بإطلاقهم , وأنعم عليهم وعلى علماء بغداد بالجوائز والصلات .



أحسن داود باشا في الأولى وأساء في الأخرى , ولو كنت مكانه ما أطلقت سبيل هؤلاء النحاة من سجنهم حتى آخذ عليهم عهدًا وثيقـًا أن يتركوا هذه الأمثلة البالية إلى أمثلة جديدة مستطرفة تؤنس نفوس المتعلمين وتذهب بوحشتهم , وتحول بينهم وبين النفور من منظر هذه الحوادث الدموية بين زيد وعمرو , وخالد وبكر .



لا ينال المتعلم حظه من العلم إلا إذا استطاع تطبيقه على العمل والانتفاع به في موضعه و موطنه الذي وضع لأجله , ولن يستطيع ذلك إلا إذا استكثر له معلمه من الأمثلة والشواهد الملائمة لقواعد ذلك العلم , وافتن له في إيرادها افتنانـًا يقرب إلى ذهنه تلك الصلة من العلم والعمل , ويسهل له الوصول إلى القدرة على تلك المطابقة .



علام يتعلم الطالب النحو والصرف إن عجز أن يقرأ صحيحًا كل كتاب وكل صحيفة ؟، وعلام يتعلم علوم البلاغة إن عجز عن معرفة أسرار الكلام , وأوجه بلاغته وفهم المراد من مختلفات أساليبه , وعن الإبانة عما يدور في نفسه إبانة واضحة لا يشوبها قلق ولا اضطراب ؟.



عجيب جدًا أن يفهم الصانع الأميّ أن العلم للعمل , فلا يتعلم النجارة إلا ليصنع الأبواب والصناديق , ولا الحداد إلا ليصنع الأقفال والمفاتيح , و أن يجهل المتعلم هذه القضية الضرورية , فلا يهمه من العلم إلا الاستكثار من المعلومات والقواعد , وإن عجز بعد ذلك عن التصرف فيها , والانتفاع بها في مواطنها .



----

نقلته من إحدى المنتديات ، وختم المقال بقول : [زيد وعمرو للمنفلوطي.. بتصرّف] .




مواضيع متعلقة


اهم الفاعليات لهذا الشهر


الشبكات الإجتماعية

تغريدات تويتر