بقلم: نور الهدى سعد
أتحامل على نفسي وأنهض من الفراش بتثاقل لشدة إرهاقي، وأسمي الله لأبدأ يومًا جديدًا من الدوران في طاحونة العمل المنزلي الذي لا ينتهي إلا لكي يبدأ من جديد.
أعد الإفطار وأوقظ زوجي وأجهز له ملابس الخروج ثم أهرول إلى حجرة الصغار أناديهم حتى لا يتأخروا على المدرسة، فيتثاءبون بتكاسل ثم يقفزون ويتسابقون إلى الحمام، فأرتب أسِرَّتَهم، وأفتح نوافذ البيت وأجهز الشطائر، وأصفِّف شعر ابنتي وأساعدها وشقيقتها على ترتيب حقائبهم الدراسية.
أرفع أطباق الإفطار وأضع بدلاً منها أكواب الشاي وتستعد أذني لتلقي أوامر كل صباح، ناوليني فرشاة الشعر، اجمعي الأوراق التي على المكتب في مظروف واحد، كوب من الماء.. وينطلق سيل التساؤلات:
أين النظارة؟ هل سرق عفريت القلم الذي كان فوق المنضدة؟ هل أخذت نقودًا من جيبي بالأمس؟
أطيع وأرد.. وأدور كنحلة نشطة بين زوجي وأطفالي، ألبي المطالب وأفك اشتباكات الصغار.. وأدعو لزوجي بالسلامة وسعة الرزق، وأوصي الولدين بأختهما، ينصرفون فأقف في منتصف الرَّدْهَة لأضعَ خطة اليوم، ويمضي النهار وأنا واقفة لا تقطع حركتي سوى الصلاة التي أجدها فرصةً لبعض الراحة قبل أن أواصلَ دوامة شغل البيت، فأتابع الطعام على النار و(الغسالة) تدور، وأغير بياضات الأسِرَّة قبل أن أخفضَ النار تحت الأرز.. أنفض الغبار عن النوافذ، وأنظف أرضية المطبخ والحمام.
أزيل آثار فوضى الصغار وبقايا أوراق زوجي التي يمزقها أثناء عمله في المنزل، أستوقف الباعة المارين في الطريق لأشتريَ بعض احتياجات البيت، وأجتهد في إعداد طعام يرضي الأذواق المختلفة لأحبائي، وأردِّد بين وقت وآخر آياتٍ قرآنيةً مع تلاوة القرآن الكريم المنبعثة من المذياع أو جهاز التسجيل التي تؤنس برامجها وحدتي وتقصر اليوم عليَّ.
يدور مفتاح في الباب، وقد فرغت لتوي من مهام اليوم، فأبدأ طقوسًا جديدة، أضع حذاء زوجي في حاملة الأحذية التي يصر منذ زواجنا على أن يخلع حذاءه بجوارها دون أن يخفيه داخلها.. وأهرع إليه بملابسِ المنزل فيرتديها، ويجلس في انتظار الطعام.. أسمع جلبة الصغار على السلم فأفتح الباب قبل أن يطرقوه.. أجهز الغداء.. ونجتمع حوله لتدخل جوفي أول لقمة منذ الصباح.. إذ لم يتسعِ الوقت لأفطر!
ويمر باقي اليوم بين مساعدة الأولاد في استذكار دروسهم واستقبال الجارات والصديقات وتلبية مطالب زوجي وضيوفه، لأستلقي على فراشي متهالكة، وأشعر بأنني أغوص فيه من فرط التعب.
ككل الزوجات أنا أتفانى لأجل بيتي وأسرتي وأخفي معاناتي لكيلا أحمِّلَ زوجي ما لا يطيق.. أرفض استشارة الأطباء كلما ألمَّ بي تعبٌ حتى لا ينصحوني براحة لا تتيسر لي.. وأرفض أن أحمل الصغار مسئولية بخلاف مذاكرة دروسهم، وأكتفي بأن يجتهدوا في دراستهم، ولا يتعمدوا إفساد المكانِ الذي يذاكرون فيه.
احتسب ذلك عند الله.. فزوجي لا يسقي نفسه شربة ماء.. ويقوم من مكانه عدة مرات.. دون أن يفكِّر في حمل كوب الشاي معه إلى المطبخ، وفوق كل ذلك.. يسفِّه تعبي.. ويستهين به! نعم.. فهو يعود كل يوم من عمله ليجد البيت عروسًا تهيأت لاستقبال زوجها.. كل شيء نظيف ومرتب.. ولا يعرف ماذا فعلت ليكون البيت كذلك في استقباله؟!!
يتفرغ لقراءة الصحف ومشاهدة التليفزيون ولا يعرف شيئًا عن واجبات الصغار أو يفكر في حلها، المطبخ أمامه دائمًا يبرق، وكأنما لم يستعمل فيه شيء.. ولكنه لا يدرك كم أتعب لأجعله كذلك، فلا أكدس الصحون.. أو أترك رخام المناضد يسبح في الفوضى أو أترك سطح الموقد متسخًا.
ولأن زوجي اعتاد ألا أتذمر.. ولم يعد يومًا إلى المنزل ليجد فيه ما لا يرضيه فهو يتصيد لي الأخطاء، ويضخم الهفوات، ويهز رأسه ساخرًا إذا طلبت منه أن يلتمس لي عذرًا إن نسيت شيئًا، ويقول باستهانة: أتظنين نفسك قد فعلت المعجزات؟
إذا طلبت منه أن يشتريَ لي شيئًا وهو قادمٌ من عمله ردَّ بجفاء ليس هذا عملي، لكن إن تأخر الطعام قليلاً لسبب خارج عن إرادتي قال بتذمر: (كل يوم نتغدا المغرب)!!
هكذا يضاف إلى عنائي الذي أحبه الإنكار والجحود والتسفيه، وتخاصم لسان زوجي عبارة من كلمتين أراهما كفيلتين بإزالة أي شقاء عن جسدي المنهك: الله يعينك.. ويعتبر العمل المنزلي تحصيل حاصل وشيئًا روتينيًّا لا يسبب إرهاقًا ولا يتجدد كل يوم، لدرجة أنني أحيانًا أشك في أنني لم أفعل شيئًا بالأمس؛ لأن كل ما ظننت أنه انتهى.. قد بدأ من جديد في اليوم التالي!
لقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء الجاحدات لفضل أزواجهن بأنهن يكفرن العشير، فبم يوصف الرجال المحقرون لعطاء الزوجات وتفانيهن؟ وهل كثير على الزوجة "كلمة حلوة" مقابل شقائها اليومي؟!!
كان رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام في مهنة أهله يدًا بيد، وأنا وكثيرات غيري لا نطمع في أزواج كالنبي الكريم، ولكن نطمع- فقط- في عون معنوي وتخفيف للمعاناة بالكلمة وابتسامة الامتنان والدعاء، والتوقف عن ترديد القول بأن العمل المنزلي غير منتج... فنحن نراه منتجًا معطاءً شريطة أن يحس شركاؤنا بنا.. فقط يحسون.
|